دور التربية المدنية في التربية على المواطنة
دور التربية المدنية في التربية على المواطنة
أ. محمد راضي
يعد قطاع التربية والتعليم الركيزة الأساس لبناء الأفراد والمجتمعات، ولقد كان وسيظل أهم السبل وأكثرها نجاعة لتكريس توجهات المجتمعات، ولذا تشكل المنظومات التربوية إحدى انشغالات العصر الكبرى التي نالت من عناية الأمم واهتمامها ما يسوغ القول بإمكانية مقاربة الفلسفة العامة للمجتمعات العالمية من خلال النظر في النظام التربوي المعتمد لديها وفي إستراتيجياته والإمكانات المسخرة له. هذه المقاربة تضع الباحث أمام عدد من المستويات لا يقل بعضها أهمية عن الآخر، منها ثلاثة على وجه الخصوص :
سياسة النظام التربوي وتوجهاته؛
المناهج التربوية المعدة خصيصا لتنفيذ هذه السياسة:
مخرجات التعليم التي تعتبر المحك الحقيقي لمدى نجاح الأمة أو فشلها في هذا المجال الحيوي الإستراتيجي.
وأمام ما تبدو عليه هذه المستويات من تداخل العلاقة بينها وتعقدها فلا شك أن أي مجتمع سيجد نفسه ملزما بالانفتاح على غيره من المجتمعات العالمية بنبذ العزلة والانغلاق في كافة مجالات الحياة، ولاسيما منها المجالات الحيوية كالإعلام والاتصال والاقتصاد والثقافة الاجتماعية المعاصرة، ذلك لأن الركب الحضاري سائر لا محالة ولا مكان فيه لمن تأخر، بيد أن مسايرة هذا الركب يقتضي التماسك والوحدة التي ما من سبيل لتحقيقها في زخم التغيرات العالمية المذهلة إلا الحفاظ على ثوابت الأمة وهوية المجتمع ومكوناتها.
ومن هنا يتسنى القول أن المجتمعات التي لا تعنى بتركيبتها الاجتماعية ومكونات سياستها وثقافتها، قد تجد نفسها أمام تناقضات جسام ما لن تسارع إلى تحويل تنوعها الاجتماعي الثقافي وتباين تصوراتها وطموحاتها إلى عامل قوة وإثراء يحقق وحدتها ويكرس مقومات هذه الوحدة التي تؤدي إلى تعزيز وتثمين كل قيمها بالتوافق مع فلسفة تربوية/ تعليمية عامة تدعم هذا المسار وترسخ قيم المواطنة، التي تتيح بدورها لكل فرد من أفراد المجتمع فرصا يومية ونشاطا دائما لتحيق ذاته عبره دونما اعتبار للمذهب والمشرب.
ومن هذا المنظور يحق الحديث عن المناهج الدراسية، ودورها في عملية التنشئة الاجتماعية وبناء الأجيال، وعن قدرتها على تثمين المواطنة وترجمتها إلى سلوكات وممارسات يتمرن أبناء المدارس على اكتسابها منذ أظافرهم، كما تجدر الإشارة أن التربية المدنية هي إحدى المواد الدراسية المعول عليها في التربية على المواطنة بدليل ما تشهده في المجتمعات العالمية من عناية فائقة بها واهتمام بإعادة الاعتبار لها، كما تبين ذلك الملتقيات والمؤتمرات المحلية والدولية المنظمة بشأنها في هذا البلدان أو ذلك.
ولا شك أن التصور الجديد للتربية المدنية وإعادة النظر في مضامينها بما يلائم التطورات السياسية والاقتصادية والعلمية العالمية وكذا اتفاق علماء التربية والاجتماع على المادة المعرفية المقدمة في المناهج الدراسية قد جعل منها مادة استراتيجية رغم بعض التباين الملحوظ في مفهوم هذه المادة لدى الخبراء إذ يرى بعضهم أنها "جانب التربية الذي يحدث شعور العضوية في جماعة حتى تتسق حياتها لفائدتها المتبادلة" فيما يرى بعض آخر ضرورة دمج التربية المدنية بالتربية الأخلاقية، وإن كانت هذه الأخيرة قاعدة ملازمة للأولى فإن التربية المدنية مرتبطة بمفهوم المجتمع المدني والمواطن، وبحقوق الطفل والإنسان، ولذلك تعنى هذه المادة بتربية الفرد على معرفة حقوقه وواجباته، و باكتسابه المهارات المناسبة للاتصاف بالمواطنة وممارستها بصفته مواطنا وعضوا في المجتمع / الدولة.
وتجدر الإشارة أن هذا النوع من التربية يحتاج إلى بنية نظرية ومفهومية مناسبة، وإلى شراكة مؤسساتية جادة وتعاضد كافة أطرافها من أجل تكامل العملية التربوية التعليمية وتحقيقها عبر التوفيق بين العناصر الرئيسة الثلاثة ذات العلاقة المتبادلة كما يرى ذلك د. عبد الله مجيدل :
أ- المعرفة المدنية: وتتكون من أفكار جوهرية، ومعلومات يتوجب على المتعلمين استيعابها وتوظيفها لتصبح مؤثرة في سلوك مواطن الديمقراطية، وتتضمن بصورة عامة المعرفة المدنية ومبادئ النظرية الديمقراطية، وتحوي بصورة خاصة مفاهيم ومعطيات حول الديمقراطية في بلد المتعلم مع مقارنة الوضع بأوضاع البلدان الأخرى.
ب- المهارات المدنية: وهي العمليات الإدراكية التي تساعد المتعلم على فهم المبادئ وشرحها ومقارنتها وتقييمها وممارسات الحكم والمواطنة. وهناك أيضا مهارات المشاركة التي تتضمن أفعالا يقوم بها المواطنون لضبط القضايا العامة وإيجاد الحلول لها بصفتهم طرفا في معادلة الحكم الديمقراطي، والمواطنة.
ج- الفضائل المدنية: وهو العنصر الثالث في التربية المدنية، ويتلخص في فهم السمات الضرورية للشخصية من أجل الحفاظ على الحكم الديمقراطي وتجويده، وتعزيز قيم المواطنة التي تشمل حب الوطن والاستقامة والانضباط والتسامح وكرامة المواطن والتمدن...
وذلك ما لا يتحقق إلا بتضافر جهود المؤسسات التعليمية العامة والخاصة ومؤسسات الإعلام وغيرها في تكوين المواطنين على ضوء مفهوم الديمقراطية والمواطنة والقانون، ومفهوم الدستور والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، وكذا في تكوين مهاراتهم النظرية والعملية التي تتحول إلى معايير لتفسير القضايا المتعلقة بالوطن والمواطنة، وبخاصة ما يتعلق بالسلوك السياسي لديهم.
هذا، وتعمل هذه المؤسسات، ومنها التعليمية تحديدا على تطوير مهارات صنع القرار لدى المتعلمين، باعتبار أن المواطن الصالح هو ذلك الذي يستطيع اتخاذ القرار الهام السليم لكونه يتمتع بمهارات التفكير التي تعد جزءا لا يتجزأ من التربية المدنية وتسهم جاهدة في ترقيته وتطويره .
ولا ريب أن شراكة المؤسسات قد تضع التربية أمام تحد هو المسار التكاملي في المعرفة المدنية والمهارات والفضائل في تحقيق وظيفتها المتمثلة في تطوير قدرة الأفراد على بناء الحكم الديمقراطي والمحافظة عليه في ظل الوعي بحقوق المواطنة ووجباتها، وعلى بناء الدولة الوطنية التي تفرض على الأفراد التعامل مع المجتمع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
ومن هنا تبرز العلاقة التكاملية بين التربية المدنية وبين ترسيخ مبدأ المواطنة الذي يميز بين:
الحقوق المدنية: التي تهدف إلى تمكين الإنسان من العيش كمواطن داخل بلده بحكم عضويته في الجماعة السياسية، أي التركيبة البشرية للدولة، وهي حقوق يجب أن يكون في مقدور كل إنسان أن يمارسها بحرية دون تدخل الغير حتى الدولة ذاتها، طالما لا يخالف الفرد القانون، ومنها على سبيل المثال حرية الرأي والتعبير وحق الملكية وغير ذلك...
الحقوق السياسية: وهي أكثر فاعلية، إذ تضمن لصاحبها المساهمة الإيجابية في ممارسة السلطات العامة في بلده، وذلك من خلال مشاركته في مؤسسات الحكم السياسية والقانونية، علما أن صفة المواطنة لا تمنح طبقا للدستور والقانون إلا لمن يتمتع بهذا النوع الثاني من الحقوق.
يتبين مما تقدم أن تكريس المواطنة بمفهومها العام مرتبط بحق المشاركة في كل ما يتعلق بالوطن، أما في مفهومها الخاص فهي تعني المشاركة في الحكم. الأمر الذي يؤكد مدى فعالية التربية المدنية في إعداد الناشئة لممارسة المواطنة بوعي ومسؤولية، بيد أن ذلك يقتضي تأسيسها على دعائم ثابتة تقوم عليها ويتعزز بها تمسك المتعلم بهويته الوطنية وخصوصياته الاجتماعية والثقافية.
هذا الأمر يستوجب وجود توجه حقيقي لدى الدولة، وتوفرها على فلسفة تربوية متسقة مع هذا التوجه من أجل التمكين لهذه التربية، كما يستوجب توفير الجو اللائق بهذا العمل التربوي الحضاري من خلال توفير المناهج المناسبة والإطار الكفء الجدير بالتكفل بإكساب المتعلم فضائل التربية المدنية ومهاراتها التي تمكن الفرد من ممارسة مواطنته في جو من التواصل والمساواة، وهو الأمر ذاته الذي يستوجب ضرورة إسهام الأسرة وتفعيل دورها في نشر هذه الثقافة وتعزيزها في نفوس أبنائها وفي ثقافتهم منذ الصغر، كما يستلزم أيضا إشراك الهيئات الأخرى ذات العلاقة بأمر التربية والتعليم كالإعلام ومؤسسات الإنتاج والمجتمع المدني بكافة وسائله. هذه الرساله بقلم نجم النجوم ( نجم المركز محمد راضي)